سياسات التشديد الكمي للازمة الاقتصادية الحالية
الدكتور عادل عامر
يمكن أن يكون الترابط الشديد فيما بين مؤسسات الوساطة المالية غير المصرفية ومع البنوك التقليدية إحدى أهم قنوات تفاقم الضغوط المالية. ويتضح من الأزمة الناتجة عن استراتيجيات صناديق المعاشات التقاعدية والاستثمارات القائمة على الخصوم التي شهدتها المملكة المتحدة العام الماضي خطر التأثير المتبادل بين الرفع المالي ومخاطر السيولة والترابط.
ونتج عن المخاوف إزاء آفاق المالية العامة للبلاد ارتفاع حاد في عائد السندات السيادية للمملكة المتحدة، مما أدى بدوره إلى خسائر كبيرة في استثمارات صناديق معاشات التقاعد ذات المزايا المحددة التي اقترضت مقابل هذا الضمان، مما نشأت عنه طلبات لتغطية حساب الهامش وزيادة الضمانات. ولتلبية هذه الطلبات، اضطرت صناديق معاشات التقاعد إلى بيع السندات الحكومية، مما أدى إلى ارتفاع إضافي في حجم العائدات.
كان للتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا تبعاته الاقتصادية على العالم أجمع، وهو ما دفع البنوك إلى انتهاج سياسات نقدية متقاربة، تدور في معظمها حول سياسات التشديد الكمي، من أجل احتواء التضخم المتفشي والارتفاع الجامح في أسعار السلع. وفيما يأتي نسلط الضوء على طرق تعامل البنوك المركزية المختلفة مع التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية:
1– رفع البنوك المركزية الأوروبية أسعار الفائدة: أدى قرب أوروبا من الحرب في أوكرانيا والاعتماد المفرط على واردات الطاقة الروسية، بجانب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة وصدمات الإمدادات العالمية كذلك من جراء عمليات الإغلاق الصينية، إلى تسجيل التضخم أعلى مستوى قياسي له للمرة السادسة على التوالي في شهر أبريل الماضي، في منطقة اليورو المكونة من 19دولة؛ وذلك بنسبة 7.5%.
دفع هذا الأمر البنك المركزي الأوروبي إلى الشروع في رفع أسعار الفائدة، حتى في أوائل شهر مايو، قام البنك الاحتياطي الفيدرالي برفع سعر سياسته المعيارية بمقدار 50 نقطة أساس إلى نطاق يبدأ من 0.75% إلى 1%. ويبدو أن البنك المركزي الأوروبي مستعد لرفع تكاليف الاقتراض للمرة الأولى منذ 2011 في يوليو القادم، كما من المتوقع أن ترفع البنوك المركزية الكندية والأسترالية والبولندية والهندية أسعار الفائدة خلال الأسابيع المقبلة.
2– تبني البنك المركزي الأمريكي سياسة التشديد الكمي: انتهج الاحتياطي الفيدرالي منذ بداية الحرب الروسية، دورة تشديد كمي هي الأكثر حدة منذ عام 1994 من حيث الحجم والسرعة. ويعد رفع أسعار الفائدة أحدث الجهود الأمريكية لاحتواء تكاليف المعيشة المرتفعة وتضخم الأسعار الآخذ في الصعود؛ فقد أعلن البنك المركزي الأمريكي يوم الأربعاء الرابع من مايو الماضي، عن أكبر زيادة في أسعار الفائدة منذ أكثر من عقدين، في إطار معركته الحالية لكبح جماح التضخم؛ وذلك بمقدار نصف نقطة مئوية، إلى نطاق من 0.75% إلى 1% بعد زيادة طفيفة في سعر الفائدة في مارس الماضي.
3– سياسات متنوعة للبنوك المركزية في شرق آسيا: رغم انخفاض حدة التضخم في شرق آسيا عن المستويات العالمية، فإن البنك المركزي في كوريا الجنوبية، رفع سعر الفائدة الرئيسي في يوم الخميس الماضي الموافق 26 مايو، للشهر الثاني على التوالي، بمقدار 25 نقطة أساس، من 1.50% إلى 1.75%. كذلك لجأ بنك نيجارا المركزي في ماليزيا إلى رفع سعر فائدته الرئيسي إلى 25 نقطة أساس في شهر مايو الماضي.
على الجانب الآخر، مثَّلت الصين أحد الاقتصادات الرئيسية التي خالفت ذلك الاتجاه؛ حيث دفعت الأضرار الاقتصادية المتزايدة نتيجة قيود الإغلاق – في ظل تفشِّي متحورات كورونا والمشاكل في قطاع العقارات – المسؤولين إلى خفض معدل القرض الأساسي لمدة عام بمقدار 10 نقاط أساس من 3.8% إلى 3.7%، كما خفض المقرضون من القطاع الخاص معدلات الرهن العقاري. فيما حافظ بنك اليابان على تعهُّده بالحفاظ على العوائد عند الصفر، مع الاستعداد للجوء إلى توسيع ميزانيته العمومية إذا لزم الأمر.
4– الاستجابة السريعة من البنوك المركزية في دول الخليج: في ظل توجه البنوك المركزية حول العالم لرفع أسعار الفائدة، وبالأخص الفيدرالي الأمريكي؛ انتهجت البنوك المركزية الخليجية السياسة ذاتها، خاصة مع ارتباط عملات دول الخليج جميعها – باستثناء الكويت – بالدولار الأمريكي. ومن ثم رفع البنك المركزي الإماراتي السعر الأساسي المطبق على تسهيل الإيداع الليلي بمقدار 50 نقطة أساس، اعتبارًا من الخميس الموافق 5 مايو 2022، كما رفعت البنوك المركزية في السعودية وقطر والبحرين هي الأخرى أسعار الفائدة الرئيسية بمقدار 50 نقطة أساس، فيما رفع البنك المركزي الكويتي سعر الخصم بمقدار 25 نقطة أساس إلى 2 %، في إطار انتهاجه خطوةً أقل تشددًا من الاحتياطي الفيدرالي.
محددات الفاعلية
إجمالاً.. في ظل الظروف المالية العالمية الأصعب منذ 13 عاماً، والتقلُّب الضمني في سندات الخزانة الأمريكية، وارتفاع سعر الدولار الذي ساهم في زيادة التقلبات في أسواق المال؛ لجأت البنوك المركزية حول العالم إلى تبني سياسات تشديد كمي بهدف تقليل السيولة وخفض التضخم المتفشي، وهو ما بات يمثل شبه إجماع من جانب البنوك المركزية حول العالم على سياسات نقدية انكماشية منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008–2009؛ الأمر الذي قد يكون مؤشراً على وقوع أزمة عالمية جديدة في ظل موجات التوتر والتقلب الشديد في الأسعار.
وبالرغم من تشابه السياسات التي تتبناها البنوك المركزية المختلفة، فإن درجة نجاح وفاعلية هذه السياسات، يظل مرتبطاً بعدد من المحددات الرئيسية، أهمها الطبيعة اقتصاد الدولة، ومدى تقدمه، وكذلك هيكلية هذا الاقتصاد، ودرجة ارتباطه بالاقتصاد العالمي ومن ثم تأثره به. ومن المفيد الرجوع خطوة إلى الوراء وإلقاء نظرة على البيئة الحالية لمؤسسات الوساطة المالية غير المصرفية.
ففي ظل معدلات التضخم الأسرع على الإطلاق خلال عدة عقود، وتحمل معظم البنوك المركزية المسؤولية عن استقرار الأسعار كجزء من مهامها الأساسية، يمكن أن يؤدي ضخ سيولة البنوك المركزية لأغراض الاستقرار المالي إلى تعقيد جهود مكافحة التضخم. وعند تدني مستويات التضخم، يمكن للبنوك المركزية الاستجابة للضغوط المالية من خلال تيسير السياسات، كخفض أسعار الفائدة أو شراء الأصول لاستعادة سير العمل في الأسواق.
ولكن في ظل ارتفاع التضخم، قد تكون لدى البنوك المركزية صعوبة في المفاضلة بين تعزيز الاستقرار المالي وتحقيق الاستقرار السعري خلال فترات الضغوط، مما قد يهدد سلامة القطاع المالي.
ويحتاج صناع السياسات إلى أدوات ملائمة للتصدي للاضطرابات في قطاع مؤسسات الوساطة المالية غير المصرفية التي قد يكون لها تأثير سلبي على الاستقرار المالي. وتعد قوة الرقابة والتنظيم والإشراف شرطا أساسيا في هذا الصدد. وعلى صناع السياسات أيضا تضييق أو سد فجوات البيانات الأساسية في التقارير المقدمة للأجهزة التنظيمية، بما في ذلك حجم المخاطر التي تتحملها الشركات عند الاقتراض أو استخدام المشتقات.
وهناك حاجة أيضا إلى سياسات لضمان تعزيز قدرة مؤسسات الوساطة المالية غير المصرفية على إدارة المخاطر، وهو ما يمكن تنفيذه من خلال متطلبات الحوكمة ونشر بيانات حديثة ومفصلة عن هذه الجهات. كذلك يجب أن تقترن تلك التحسينات في إدارة مخاطر القطاع الخاص بمعايير احترازية ملائمة لدعمها، بما في ذلك متطلبات رأس المال والسيولة، إلى جانب تعزيز موارد الأجهزة الرقابية وتشديد معاييرها. وفي الوقت نفسه،
يمثل التعاون بين صناع السياسات في البلد الواحد والتنسيق الدولي بين السلطات الوطنية مطلبا ضروريا، حيث يساعد في تعزيز آليات الكشف عن المخاطر وإدارة الأزمات. وتحديدا، من شأن تنسيق الإصلاحات على المستوى الدولي الحد من مخاطر انتشار التداعيات عبر الحدود، والمراجحة التنظيمية، والتفكك السوقي.
وفي ظل نمو مؤسسات الوساطة المالية غير المصرفية عالميا من حيث حجم أنشطتها وقدراتها في قطاع الوساطة، يتعين إيلاء الأولوية لاستحداث الأدوات الملائمة لتنظيم الاستفادة من سيولة البنوك المركزية، وتطبيق معايير الحماية اللازمة للحد من الحاجة إلى استخدامها. وأصبحت الحاجة إلى ذلك أكثر إلحاحا في ظل مواطن ضعف القطاع المالي التي يُتوقع تفاقمها نتيجة استمرار تشديد السياسات النقدية.